الحكم القضائي.. قرار تاريخي يعزز حرية الإبداع في مصر

امتدت معركة فيلم “بحب السيما” لأكثر من ثلاثين سنة وشهدت محطات هامة أثمرت حكمًا قضائيًا استثنائيًا تجاه حرية الإبداع، إذ جاء القرار القضائي في ديسمبر 2004 ليوقف استغلال قانون الحسبة في محاكمة الفن محاكمات دينية وأخلاقية صارمة، مؤكدًا أن الفن يُحاكم فقط وفق مقاييس فنية وأدبية لا دينية أو أخلاقية، ما شكّل نصرًا بارزًا ضد ما يُعرف بحراس القيم الذين حاولوا فرض وصايتهم على الإبداع.

حكم المحكمة وإيقاف قضايا الحسبة للحرية الإبداعية في فيلم «بحب السيما»

صدر الحكم القضائي في فترة كانت حرية الإبداع تواجه تحديات كبيرة بسبب الملاحقات القانونية المستندة إلى قانون الحسبة، الذي أعطى لعدد من رجال الدين والمحامين المتزمتين فرصة مطاردة المبدعين بحجة حماية القيم الدينية والأخلاقية في المجتمع، وكان فيلم “بحب السيما” هدفًا رئيسيًا لهذه المضايقات، ضمن حملات مماثلة استهدفت أعمالًا سينمائية ومسلسلات تلفزيونية أخرى. أظهرت المحكمة، برئاسة المستشار فاروق عبد القادر، أن مقاييس الحكم على الأعمال الفنية يجب أن تكون فنية وأدبية فقط، وهذا القرار قضى برد الدعوى المرفوعة لمنع عرض الفيلم، بعد أن ناقشت المحكمة تفاصيل الدعاوى والدفوع والمستندات التي قدمها الطرفان. وجاء الحكم ليضع حدًا لاستغلال قانون الحسبة في ملاحقة الفنانين والمبدعين، مؤكّدًا أن الحرية الفنية لا يجوز أن تُحكم بمعايير دينية أو أخلاقية مفروضة من قبل جهات ليست مختصة.

الدفاع القانوني والفني لفيلم «بحب السيما» وأثره في حماية المبدعين

شهدت المحكمة مواجهات قانونية متعددة بين رافعي الدعوى وفرق الدفاع، حيث قدم المجلس الأعلى للثقافة تقارير ومستندات تثبت أن الفيلم يعبر عن واقعية اجتماعية وثقافية تغطي مرحلة تاريخية معينة في مصر، وهو عمل فني بحت يتناول شخصية تمثل التطرف الديني بأسلوب نقدي ومتحرر. كما أوضح دفاع الفيلم أن ما تضمنه من مشاهد وعبارات لا يتجاوز إطار الخيال الفني وحق التعبير، ولا ينال من قيم المجتمع أو معتقداته، وأن إنتاج الفيلم خاضع لأنظمة وقوانين العرض المرخصة التي تتيح عرض الأفلام للكبار فقط. شهدت الجلسات متابعة دقيقة ومشاهدة مباشرة للفيلم من قبل المحكمة وأطراف الدعوى، الأمر الذي أسهم في كشف المبالغات والاتهامات التي جاءت ضد الفيلم، وأثبت أن معظم الاعتراضات كانت قائمة على وجهات نظر ضيقة تحكمت فيها محاكمات دينية وأخلاقية لا علاقة لها بالفن.

تأسيس قاعدة قانونية لحرية الإبداع: محاكمة الفن فنيًا لا دينيًا أو سياسيًا

أبرز ما تضمنه حكم المحكمة هو تأكيده القاطع على أن الفن والأدب لا يجب أن تحاكما أمام قضاة الدين أو السياسة، بل فقط أمام قضايَا النقد الفني والأدبي، مع ضرورة تفهّم دور الفن في نقد المتطرفين والتعصب الديني والاجتماعي، كما أوضح الحكم أن الأعمال الفنية التي تناقش القضايا المجتمعية، حتى إن تجاوزت مفاهيم مألوفة، لا تُعتبر مخالفات تستدعي التوقف أو الحجب. اعتبر القاضي فاروق عبد القادر الحكم وثيقة أساسية في حرية التعبير، مواجهة لمحاكم التفتيش الفكرية الجديدة التي تحاكم نيات المبدعين بدعوى الإضرار بالدين أو القيم، مؤكدًا أن المجتمع المصري الراسخ بتسامحه بين طوائفه لن يسمح بقيود على الإبداع بهذا الشكل. لقد كان هذا الحكم بمثابة درع حماية للمبدعين، فتح الطريق أمام سينما وأدب قادر على طرح قضايا جريئة دون الخوف من الملاحقات الدينية أو السياسية، وبهذا انتهت مرحلة من التعسف والوصاية التي كادت تخنق حرية التعبير في مصر.

التاريخالحدثأبرز التفاصيل
2000حملة ضد مسلسل “أوان الورد”ملاحقة طويلة استدعت تدخل البابا شنودة لمنع تصاعد الأزمة
رمضان 2004منع عرض مسلسل “بنت من شبرا”شروط الوزارة بعدم العرض إلا بموافقة الأزهر والكنيسة بسبب قضايا الحسبة
27 يوليو 2004نظرة أولى لدعوى وقف عرض «بحب السيما»القضية أمام المحكمة مع تدخل عدة جهات وفريق إنتاج الفيلم
1 ديسمبر 2004صدور الحكم التاريخيرفض الدعوى لصالح حرية الإبداع ووقف محاكمات الحسبة ضد الأعمال الفنية

كانت معركة “بحب السيما” ليست فقط معركة فنية أو قانونية، بل دربًا طويلًا أثبت أن حرية الإبداع لا يمكن حصرها بقيود دينية أو أخلاقية ملتبسة، مؤسسًا لمنهج قضائي يضمن للفنانين التعبير بحرية، ويدحض محاكمات الظلام التي طالما حاولت كبت أصوات التنوير والتقدم في المجتمع، ليبقى الفيلم علامة مضيئة في تاريخ حرية التعبير في مصر.