فلسطين: هل هو وعد الرب أم وعد بلفور؟

الحروب الصليبية وأثرها على الموازين الاقتصادية وتأثيرها على الصراع على القدس

كانت الموازين الاقتصادية في أوروبا خلال الحروب الصليبية مختلة للغاية، حيث أدت القوانين إلى إفقار العديد من النبلاء الذين انطلقوا للبحث عن أملاك جديدة في الشرق، كما دفع ارتفاع نسبة الفقراء في طبقات المجتمع إلى السعي وراء موارد رزق جديدة، مما حركهم بأحلام السيطرة على «أرض السمن والعسل»، وهذا ما دفع الجيوش للتحرك في حملات مستمرة. في ذلك الوقت، ازدهر اقتصاد المدن والإمارات الأوروبية على الساحل الشمالي للبحر المتوسط، حيث أتيح للكثير من الأثرياء فرصة تراكم ثروات هائلة من وراء تلك الحملات التي شكل فيها الدافع الاقتصادي الباعث الأساس، كما ظهر جليًا في خطاب البابا أوربان الثاني الذي اجتذب الغزاة بعناصر غرائزية، متحدثًا عن أورشليم بوصفها «أرض لا تضاهى في ثمارها» و«فردوس المباهج»، محاولًا بذلك إضفاء بعد ديني مقدس لاستدامة الحروب عبر وعد «مجد لا يفنى في ملكوت السماء».

الأبعاد الاقتصادية والسياسية للحروب الصليبية وأثرها على القدس

عندما سعى الأوروبيون إلى كسر السيطرة العثمانية على طرق التجارة الدولية القديمة بين أوروبا وأفريقيا وآسيا، كانت نتيجة محاولاتهم المثابرة وصول البرتغاليين إلى رأس الرجاء الصالح، وقيام كولومبوس وغيره باكتشاف العالم الجديد، مما أدى إلى تعاظم قوة الأساطيل البحرية الأوروبية والسيطرة على ممرات بحرية حيوية. استمرت هذه العمليات البحرية المستمرة حتى وصل الفرنسيون والبريطانيون إلى سواحل بلاد الشام مع نهاية الإمبراطورية العثمانية، مدفوعين بأطماع استعمارية تكتنفها أبعاد دينية وأخلاقية، عبر إرساليات تبشيرية سبقت الحملة الاستعمارية وأخذت ترافقها. وفي عام 1917، اعتبر اللورد إدموند ألنبي استيلاء قواته على القدس بمثابة نهاية الحروب الصليبية، معلنًا الانتصار النهائي على المسلمين.

كيف تغيرت الأيديولوجيات حول القدس والصراع الصهيوني بعد 1967؟

في عام 1967، عقب احتلال القوات الإسرائيلية للقدس الشرقية، فرض وزير الدفاع حينها موشيه ديان قيودًا على دخول اليهود إلى البلدة القديمة التي تحتضن الأماكن المقدسة، بحيث يقتصر حضورهم على السياحة فقط، وعندما رفع الجنرال موردخاي غور علم إسرائيل على قبة الصخرة، أمر ديان بإزالته بعد ساعتين فقط، لأن فكرة «جبل الهيكل» لم تكن قد ترسخت آنذاك. فقد كانت الأيديولوجيا السياسية الصهيونية، لا العقيدة الدينية اليهودية، هي المسيطرة على أذهان مؤسسي الدولة، حيث كان بن غوريون لا يؤمن بالتوراة، كما لم يكن هرتزل مؤيدًا للدين، وكانت فكرة إنشاء «وطن قومي لليهود» تتراوح بين خيارات متعددة بعيدة تمامًا عن الرموز الدينية مثل أوغندا والأرجنتين وحتى ولاية نيويورك الأمريكية، ما يؤكد أن الهدف كان إيجاد وطن وليس بناء دولة على أساس ديني، وكان الصهاينة الأوائل يبحثون عن وطن لا دين، وأرض لا عقيدة، وتسلط مالي لا روحي، معتبرين أن «كلام الله لموسى عند الطور» مجرد أسطورة.

الأبعاد الدينية والسياسية في الصراع على القدس في العصر الحديث

كان الدافع الديني في الأصل بعيدًا عن الغزاة الصليبيين والاستعمار الأوروبي، وكذلك مؤسسي دولة إسرائيل مثل بن غوريون وديان، إذ كانت الدوافع سياسية واقتصادية بحتة فقط، لكن مع الوقت تم ابتكار الزخارف الدينية التي ارتدى بها شعارات مثل «الحروب الصليبية» و«تحرير مهد المسيح» و«أرض الميعاد» لتغطية الأهداف الحقيقية التي خدمت الهيمنة الغربية على الشرق. ومع تصاعد الحملات الإعلامية والروايات الموجهة، نشأت أجيال تؤمن بـ«حق العودة اليهودي» و«وعد الرب» لإبراهيم، مع تخصيص هذا الوعد لليهود فقط، متجاهلين العرب من الإبراهيميين حسب الكتاب المقدس.

تسيطر اليوم في دولة الاحتلال الإسرائيلي حكومة حاخامات متطرفة، تستند إلى سرديات توراتية قومية تطغى على السياسات الخارجية والممارسات الأمنية والعسكرية، مرتكزة على رؤى لم تكن موجودة في جيل الآباء المؤسسين. وليس الصهاينة اليهود وحدهم من يسلط الضوء على الأبعاد الدينية للصراع على القدس، بل هناك أيضاً الصهاينة المسيحيون الذين يتحدثون عن «نبوءات العهد القديم» و«عودة المسيح» و«شعب الله المختار»، فيما يحاول قادة إسرائيل اليوم ربط «وعد الرب» بـ«وعد بلفور» التاريخي، رغم أن مؤسسي الدولة كانوا علمانيين أو ملحدين، واعتمدوا على الاتفاق السياسي المعروف بـ«وعد بلفور» لدعم تأسيس دولتهم.

العام الحدث
1095 خطبة البابا أوربان الثاني وإطلاق الحملات الصليبية
1917 احتلال القدس بواسطة قوات اللورد ألنبي
1967 حرب يونيو واحتلال القدس الشرقية والسيطرة الإسرائيلية

تكتسب الخريطة الجيوسياسية لفلسطين أهمية كبرى للغرب تختلف جذريًا عن البعد الديني للقدس، لأن السيطرة السياسية على فلسطين تمنع توحيد القوى الإقليمية مثل مصر والشام، وهما القوتان اللتان هزمتا الغزوات الصليبية في معركة حطين بقيادة صلاح الدين الأيوبي، كما أوقفا الغزو المغولي في معركة عين جالوت بقيادة محمود قطز والظاهر بيبرس. لذلك، وجود إسرائيل يرتكز على مقومات سياسة وجيوستراتيجية أكثر من رمزية دينية، رغم الدعاية التي تربط «وعد بلفور» و«وعد الرب» بهدف دعم أطماع الهيمنة، كما أشار الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن حين قال: «لو لم تكن إسرائيل موجودة لكان علينا اختراعها».

  • الدوافع الاقتصادية والسياسية كانت الدافع الحقيقي وراء الاحتلال والاستعمار.
  • الدوافع الدينية استُخدمت كذريعة لتبرير الأنشطة الاستعمارية.
  • الروايات الدينية تعزيزّت من أجل تحشيد الدعم الغربي تجاه مشاريع الهيمنة في الشرق الأوسط.

وفي مجمل المشهد، تتضح الحقيقة وراء الصراعات المعلنة؛ إذ إن السلوك الاستعماري للنخب الغربية كان مدفوعًا بأهداف سياسية واقتصادية، وحاجتهم لذرائع دينية وأخلاقية لاستخدامها كغطاء شرعي، فيما قدمت فكرة «وعد الرب» كأنها صفقة بين الله وشعبه المختار على أرض فلسطين التي لطالما كانت موقعًا لصراعات أعمق من مجرد رموز دينية بحتة.