د. حسين موسى اليمني: رِسَالَتُنَا نَحْوَ العَالَمِيَّةِ لَا القَوْمِيَّةِ: الإِسْلَامُ رِسَالَةٌ لِلْعَالَمِينَ وَخِلَافَةٌ لِلْأَرْضِ
د. حسين موسى اليمني
الإِسْلَامُ هُوَ دِينٌ عَالَمِيٌّ جَاءَ بِرِسَالَةٍ شَامِلَةٍ تُخَاطِبُ الإِنْسَانِيَّةَ جَمِيعًا، مُتَجَاوِزَةً حُدُودَ القَوْمِيَّاتِ وَالأَعْرَاقِ. لَمْ يَكُنْ الإِسْلَامُ يَوْمًا دِينًا مَحْصُورًا فِي قَوْمٍ أَوْ جَمَاعَةٍ بِعَيْنِهَا، بَلْ كَانَتْ رِسَالَتُهُ رِسَالَةً عَالَمِيَّةً تَهْدِفُ إِلَى تَحْقِيقِ العَدْلِ، الرَّحْمَةِ، وَالتَّعَايُشِ بَيْنَ البَشَرِ، انْطِلَاقًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ” (الأَنْبِيَاءِ: 107).
النَّبِيُّ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ بِدَعْوَةٍ عَالَمِيَّةٍ تُخَاطِبُ جَمِيعَ البَشَرِ عَلَى اخْتِلَافِ لُغَاتِهِمْ وَثَقَافَاتِهِمْ. لَمْ تَكُنْ رِسَالَتُهُ مُوَجَّهَةً فَقَطْ لِلْعَرَبِ، بَلْ شَمِلَتْ جَمِيعَ الأُمَمِ وَالشُّعُوبِ. القُرْآنُ الكَرِيمُ يُؤَكِّدُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: “قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا” (الأَعْرَافِ: 158).
هَذِهِ العَالَمِيَّةُ تَعْنِي أَنَّ الإِسْلَامَ لَا يَنْظُرُ إِلَى النَّاسِ مِنْ مَنْظُورٍ قَوْمِيٍّ ضَيِّقٍ، بَلْ يُعَامِلُهُمْ بِاعْتِبَارِهِمْ شُرَكَاءَ فِي الإِنْسَانِيَّةِ. كُلُّ فَرْدٍ لَدَيْهِ الحَقُّ فِي أَنْ يَعِيشَ بِكَرَامَةٍ وَأَنْ يُسَاهِمَ فِي بِنَاءِ مُجْتَمَعٍ عَادِلٍ وَمُزْدَهِرٍ، بَغْضِ النَّظَرِ عَنْ جِنْسِيَّتِهِ أَوْ خَلْفِيَّتِهِ الثَّقَافِيَّةِ.
إِقَامَةُ خِلَافَةِ الأَرْضِ: أَمَانَةُ الإِنْسَانِ الكُبْرَى
مِنْ أَسُسْ الرِّسَالَةِ الإِسْلَامِيَّةِ أَنَّ الإِنْسَانَ خَلِيفَةٌ فِي الأَرْضِ، مُكَلَّفٌ بِعِمَارَتِهَا وَنَشْرِ الخَيْرِ فِيهَا. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: “إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً” (البَقَرَةِ: 30).
الخِلَافَةُ فِي الإِسْلَامِ لَا تَعْنِي السَّيْطَرَةَ أَوْ الِاسْتِبْدَادَ، بَلْ تَعْنِي المَسْؤُولِيَّةَ وَالِالْتِزَامَ بِتَحْقِيقِ العَدْلِ، حِفْظِ المَوَارِدِ، وَرِعَايَةِ حُقُوقِ الآخَرِينَ. إِنَّهَا رُؤْيَةٌ تَجْعَلُ الإِنْسَانَ مَسْؤُولًا أَمَامَ اللَّهِ عَنِ الأَرْضِ وَمَا عَلَيْهَا، وَتَحُثُّهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ عُنْصُرًا بَنَّاءً وَمُصْلِحًا فِي مُجْتَمَعِهِ.
العَالَمِيَّةُ فِي الإِسْلَامِ: مَبَادِئُ وَقِيَمٌ
الإِسْلَامُ يُقَدِّمُ مَنْظُومَةً مِنَ المَبَادِئِ وَالقِيَمِ التِي تَدْعُو إِلَى التَّعَاوُنِ بَيْنَ البَشَرِ لِتَحْقِيقِ الخَيْرِ المُشْتَرَكِ. مِنْ أَهَمِّ هَذِهِ المَبَادِئِ:
الوَحْدَةُ الإِنْسَانِيَّةُ: كُلُّ البَشَرِ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا” (الحُجُرَاتِ: 13).
التَّعَايُشُ وَالسَّلَامُ: الإِسْلَامُ يَدْعُو إِلَى التَّعَايُشِ السِّلْمِيِّ بَيْنَ الشُّعُوبِ وَاحْتِرَامِ عَقَائِدِ الآخَرِينَ.
العَدْلُ وَالمُسَاوَاةُ: الإِسْلَامُ يَرْفُضُ التَّمْيِيزَ عَلَى أَسَاسِ العِرْقِ أَوِ اللَّوْنِ أَوِ اللُّغَةِ، وَيُؤَكِّدُ أَنَّ التَّفَاضُلَ يَكُونُ بِالتَّقْوَى وَالعَمَلِ الصَّالِحِ.
حِمَايَةُ البِيئَةِ وَالمَوَارِدِ: عِمَارَةُ الأَرْضِ جُزْءٌ مِنْ رِسَالَةِ الإِنْسَانِ، وَهِيَ تَعْكِسُ مَسْؤُولِيَّةَ الحِفَاظِ عَلَى مَوَارِدِهَا لِلأَجْيَالِ القَادِمَةِ.
لِمَاذَا العَالَمِيَّةُ لَا القَوْمِيَّةُ؟
القَوْمِيَّةُ، عِنْدَمَا تَكُونُ مُفْرِطَةً، قَدْ تُؤَدِّي إِلَى الانْغِلَاقِ وَالصِّرَاعَاتِ بَيْنَ الشُّعُوبِ. بَيْنَمَا العَالَمِيَّةُ، كَمَا يَدْعُو إِلَيْهَا الإِسْلَامُ، تَبْنِي جُسُورَ التَّفَاهُمِ وَالتَّعَاوُنِ بَيْنَ الأُمَمِ.
الإِسْلَامُ يَدْعُو إِلَى أَنْ تَكُونَ الأَوْلَوِيَّةُ لِلْقِيَمِ الإِنْسَانِيَّةِ الكُبْرَى، وَلَيْسَ لِلْمَصَالِحِ الضَّيِّقَةِ التِي تُقَيِّدُهَا الحُدُودُ القَوْمِيَّةُ.
عَالَمِيَّةُ الإِسْلَامِ تُعَزِّزُ الوَحْدَةَ بَيْنَ البَشَرِ، مِمَّا يُسَاهِمُ فِي إِيجَادِ حُلُولٍ لِلتَّحَدِّيَاتِ العَالَمِيَّةِ مِثْلَ الفَقْرِ، الحُرُوبِ، وَالتَّغَيُّرِ المُنَاخِيِّ.
رِسَالَةُ الإِسْلَامِ لِلْعَالَمِ اليَوْمَ
فِي عَصْرٍ تَسُودُهُ النِّزَاعَاتُ وَالانْقِسَامَاتُ، تَبْرُزُ رِسَالَةُ الإِسْلَامِ كَدَعْوَةٍ لِلتَّوْحِيدِ بَيْنَ الشُّعُوبِ وَالعَمَلِ المُشْتَرَكِ لِتَحْقِيقِ السَّلَامِ وَالخَيْرِ. نَحْنُ بِحَاجَةٍ إِلَى العَوْدَةِ إِلَى هَذِهِ المَبَادِئِ العَالَمِيَّةِ التِي تُنَادِي بِالتَّسَامُحِ، الرَّحْمَةِ، وَالعَدْلِ لِتَحْقِيقِ حَيَاةٍ كَرِيمَةٍ لِلْجَمِيعِ.
الخَاتِمَةُ
رِسَالَتُنَا نَحْوَ العَالَمِيَّةِ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ دَعْوَةٍ دِينِيَّةٍ، بَلْ هِيَ نِدَاءٌ إِنْسَانِيٌّ يَتَجَاوَزُ حُدُودَ الزَّمَانِ وَالمَكَانِ. الإِسْلَامُ، بِرِسَالَتِهِ العَالَمِيَّةِ، يُذَكِّرُنَا بِمَسْؤُولِيَّتِنَا كَخُلَفَاءِ فِي الأَرْضِ، وَبِوَاجِبِنَا فِي بِنَاءِ عَالَمٍ يَسُودُهُ السَّلَامُ وَالتَّعَاوُنُ. فَلْنَجْعَلْ مِنْ هَذِهِ الرِّسَالَةِ نِبْرَاسًا يُضِيءُ طَرِيقَ الإِنْسَانِيَّةِ نَحْوَ مُسْتَقْبَلٍ أَفْضَلَ.
وَاللَّهُ مِنْ وَرَاءِ القَصْدِ وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ.
كاتب وباحث في العلاقات الدولية الاقتصادية
ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: