محمد المخلافي: بديعة النعيمي: الأديبة التي أحرقت صفحات التاريخ بقلمها لتوثيق أحداث فلسطين وتكذيب السرديات الزائفة التي يروجها الصهاينة

محمد المخلافي: بديعة النعيمي: الأديبة التي أحرقت صفحات التاريخ بقلمها لتوثيق أحداث فلسطين وتكذيب السرديات الزائفة التي يروجها الصهاينة

محمد المخلافي: بديعة النعيمي: الأديبة التي أحرقت صفحات التاريخ بقلمها لتوثيق أحداث فلسطين وتكذيب السرديات الزائفة التي يروجها الصهاينة

 
 
محمد المخلافي
كانت تتجول في أرجاء البيت كالفراشة، لم يتجاوز عمرها خمس سنوات. كانت تحملق بعينيها البريئتين في صورة لقبة تتلألأ بألوانها الذهبية، معلقة في صالة البيت. وكانت تسمع دائمًا والدها، رحمه الله، وهو يقول: “هذه قبة الصخرة في فلسطين”. كان يروي لها حكايات عن فلسطين، يصف جمالها وكأنها الفردوس.
ظلت هذه الحكايات تتردد في مخيلتها، وكلما مرت في الصالة، كانت تحدق بالصورة، متخيلة أنها في “فلسطين” التي ترسخت جذور حكاياتها في قلبها. وكلما كبرت، تعمقت مشاعرها أكثر، حتى جاء يوم أدركت فيه أنها طوال تلك الفترة لم تكن تعيش على أرض فلسطين التي عشقتها.
نعم، كانت هذه هي بداية حكايتها الأولى مع فلسطين. ومع طلبها المتكرر من والديها لسماع المزيد من القصص عن فلسطين، اكتشفت أن فلسطين تحتفظ بسحر خاص، وقد باتت مسحورة بها حتى أصبحت تلك البلاد هاجسًا في كتاباتها. وقد حددت لنفسها مسارًا في عالم الكتب، حيث كانت الأكثر شغفًا بتناول فلسطين بعمق.
في الصفوف الأولى في المدرسة، كانت تستعير قصص “الغابة الخضراء” من زميلاتها لعدم قدرتها على شرائها. كانت سلسلة من القصص الورقية الملونة المدهشة والجاذبة لطفلة حالمة تتمتع بخيال واسع. كانت مختلفة عن زميلاتها، حيث كانت تحب الهدوء، وتقضي معظم وقتها في قراءة القصص، وتعيش الأحداث، وتتقمص شخصياتها. ثم، بعد انتهائها منها، كانت تعيد كتابتها بأسلوبها الخاص. ولا تزال إلى اليوم تحتفظ ببعض دفاترها التي كانت تدون عليها تلك الكتابات، والتي تشكل بالنسبة لها كنزًا لا يعوض. لقد كانت المدرسة من الأماكن التي ساهمت في انطلاقتها الأولى، بجانب أسرتها.
في إحدى المرات، أُقيم معرض في مدرستها، حيث عرضت فيه مجلة في ركن اللغة الإنجليزية بعنوان “انتفاضة”، من تأليفها. تضمنت المجلة خواطر قصيرة كانت كتعليقات على صور تتعلق بانتفاضة الحجارة عام 1987، والتي اقتصصتها من الجرائد التي كان يحضرها والدها كل صباح، مثل “جريدة الرأي” و”الدستور”. حضر وفد من مديرية التربية والتعليم، وأعجب أحدهم بالمجلة وأبدى اندهاشه بمحتواها، لكنه ركنها جانبًا ومضى.
القضية الفلسطينية محور كتاباتها
هذه هي الكاتبة والأديبة الأردنية المعروفة بديعة النعيمي، التي جعلت من القضية الفلسطينية محور كتاباتها وحياتها الأدبية. تؤمن بديعة بقدرة الكلمة على إحداث التغيير الحقيقي والدائم، وتعتبر ذلك واجبًا إنسانيًا ووطنيًا عليها تحقيقه.
من خلال كتاباتها المؤثرة، تسعى إلى رفع الصوت عاليًا لتسليط الضوء على معاناة الشعب الفلسطيني المستمرة، ناقلةً صوتهم إلى العالم ومؤكدةً حقوقهم المشروعة وهويتهم الإسلامية والعربية الأصيلة. كما تعمل بشكل حثيث على تفنيد وتكذيب السرديات الزائفة التي يروجها الطرف الصهيوني، مُعززةً بذلك الحق الفلسطيني المشروع في الوجود والحياة الكريمة.
يتميز أسلوب بديعة النعيمي الأدبي بالجمع بين الواقعية الصادمة والرمزية المؤثرة، حيث تُبرز بمهارة تفاصيل مأساوية كبيرة، مثل سرقة الأرض والاستيطان، وأخرى صغيرة لكنها قاسية، كمشهد أم تحمل وسادة ظنتها طفلها، في لحظة فزع هربًا من الموت. تُظهر هذه الصورة القاسية عمق القهر الذي يعاني منه الفلسطينيون، وتجعل القارئ يتساءل بألم: أي قهر هذا الذي يُفرض على أم أن تترك طفلها وراءها، مُجبرةً على مواجهة واقع مرير وظروف قاسية؟
إن أعمال بديعة النعيمي ليست مجرد نصوص أدبية بمعناها الضيق، بل هي صرخات من قلب المعاناة والتضحية، تُخاطب الضمير الإنساني وتدعو بإلحاح إلى التغيير والإنصاف والعدالة. وبذلك تتحول كتابات هذه الأديبة الملتزمة إلى رسائل موجهة للعالم أجمع، تنادي بوقف الظلم والاضطهاد عن الشعب الفلسطيني.
كيف شكلت دراسة بديعة النعيمي للجيولوجيا رؤاها السياسية والأدبية؟
منحتها دراستها للجيولوجيا منظورًا علميًا وفلسفيًا عميقًا، حيث ساعدتها على فهم العلاقة الوثيقة بين الإنسان والعناصر التي تشكل المعادن، ثم الصخور، ثم الطبقات التي تتراكم فوق بعضها البعض، مختزنةً تاريخ البشرية.
عند العودة إلى أصل الإنسان الأول، وهو سيدنا آدم عليه السلام، نجد أن الله سبحانه وتعالى خلقه من طين، وأمر ملكًا من الملائكة بأن يقبض قبضة من جميع تراب الأرض بألوانه وخصائصه. ومن هنا، تنوعت صفات الناس بين الأبيض والأسود والأحمر والأصفر، وكذلك بين اللين والقاسي، مما يعكس غنى الطبيعة البشرية.
تشبه الطبقات الصخرية، بما تختزنه عبر السنين، ذاكرة الإنسان وما تحمله من تجارب ومعرفة. لقد أضافت دراستها لهذا التخصص الكثير إلى ما احتفظت به ذاكرتها، والتي استعادتها عندما عادت للكتابة بعد سنوات من الانقطاع. من خلال تلك المعلومات، استطاعت بلورة نظرتها السياسية في كتاباتها، مستخدمة العديد من المظاهر الجيولوجية والبيئية كرموز تعبر عن ما ترغب في إيصاله للقارئ، وخاصة في أول عملين لها.
من الرواية إلى التوثيق
قدمت مساهمات إبداعية لافتة في الساحة الأدبية. فبالإضافة إلى أربع روايات بارزة هي: “فراشات شرانقها الموت”، “مزاد علني”، “عندما تزهر البنادق”، و”حنظلة”، أسهمت أيضًا في إثراء المشهد الأدبي من خلال مجموعة من الكتب النقدية المهمة مثل “متاهات الكلمات وأصالة الهوية” و”التعدد الثيمي في الرواية المعاصرة”.
قبل السابع من أكتوبر 2023، كانت قد بدأت في تجميع رواية خامسة عملت عليها لسنوات. ولكن مع اندلاع الحرب على غزة في ذلك اليوم المشؤوم، شعرت بأن موقفها ككاتبة تحمل هموم فلسطين داخل قلبها يستدعي أن توقف العمل على الرواية وتكرّس جهودها لتوثيق الأحداث الجارية في غزة.
لذا، بدأت بكتابة مقالات توثيقية، تم تجميعها لاحقًا في سلسلة كتب، وقد صدر الجزآن الأول والثاني منها، بينما الجزآن الثالث والرابع سيصدران قريبًا بإذن الله، وهي حاليًا تعمل على إعداد الجزء الخامس. وتأمل أن تسهم هذه السلسلة في تعزيز وعي الجيل الجديد تجاه قضية فلسطين.
كيف تتجاوز الرواية حدود السرد لتصبح صوتًا للمعاناة في زمن الحرب؟
تعتبر الرواية أحد أبرز الأجناس الأدبية التي تعكس الحياة البشرية بكل تجاربها وصراعاتها، حيث تُبرز الانتصارات والانكسارات على حد سواء. وعندما يكون موضوع الرواية هو فلسطين، تكتسب الأحداث بُعدًا خاصًا ومعقدًا، يتجاوز حدود الحكاية ليعكس واقعًا مؤلمًا.
كتب “تولستوي” عن “الحرب والسلام”، بينما نحن العرب نكتب عن الحروب التي لم تترك لنا أملًا في السلام، في ظل نظام عالمي قائم على مثلث مقلوب، قاعدته الولايات المتحدة ودولة الاحتلال. أما فيكتور هوجو، فقد تناول البؤساء الذين أفرزهم الفساد في فرنسا، بينما نكتب نحن عن بؤساء يرزحون تحت وطأة المجازر الصهيونية والتطهير العرقي.
جاء جورج أورويل في “مزرعة الحيوان” ليصف الثورات الفاشلة التي لم تُحدث تغييرًا حقيقيًا، حيث جاء النظام الجديد أسوأ من السابق. لكننا نحن، نكتب عن ثورات تحررية تُختنق بصهيونية لا تمت بصلة لبلداننا، مما يبرز تعقيدات الواقع العربي.
نحن في الشرق الأوسط، نعيش مختلفين، مبتلين بكل أنواع البلايا، وكأننا “مغارة علاء الدين” التي لا تنتهي فيها التحديات. تعكس رواياتنا رؤيتنا الناقدة للمجتمع والأحداث الجارية، وخاصة في فلسطين. فكل ما نحن عليه اليوم يعود سببه إلى ضياع فلسطين، التي تمثل جوهر معاناتنا وآمالنا. إن الأدب، في جوهره، ليس مجرد كلمات تُكتب، بل هو مرآة تعكس واقع الحياة، وتمنحنا القوة لفهم أنفسنا ومحيطنا.
الكتابة في ظل الضغوط
تواجه الكاتبة تحديات عديدة في مسيرتها الأدبية، حيث تُعتبر الضغوطات المادية وانعدام الدعم من الجهات المسؤولة، مثل وزارة الثقافة ورابطة الكتاب، من أبرز العقبات التي تعترض طريقها. يعيش العديد من الكتّاب في ظروف قاسية، حيث يصبح الحصول على التمويل والدعم الفني حلماً بعيد المنال، مما يؤثر بشكل مباشر على قدرتهم على الإبداع.
يُعتبر تقييد التعبير عن الرأي تحديًا آخر يُجبرها في كثير من الأحيان على اللجوء إلى الترميز في أعمالها. على سبيل المثال، في روايتها “مزاد علني”، تعرضت لحذف ما يقارب 25% من أحداث الرواية نتيجة للرقابة المفروضة. يشعرها هذا الأمر بأنها مقيدة، وأن رسالتها الأدبية قد لا تصل كما تريد، مما يثير تساؤلات حول حرية التعبير وأثر الرقابة على الإبداع.
إضافةً إلى ذلك، تعاني بعض دور النشر من انعدام المصداقية، خاصة فيما يتعلق بمواعيد الطباعة وإشهار الكتب. كثيرًا ما يتحمل المؤلف تبعات تأخيرات غير مبررة، مما يضيف عبئًا إضافيًا على كاهله في ظل ظروف صعبة بالفعل. تشعر بالإحباط نتيجة لهذه المشاكل، إذ يتوجب عليها مواجهة تحديات كثيرة في سبيل إيصال أفكارها.
كيف يعكس انخفاض مستوى الوعي الثقافي في المجتمع التحديات التي تواجه الكتّاب في استقطاب جمهورهم وتفعيل تواصلهم؟
إن انخفاض مستوى الوعي الثقافي في المجتمع يعكس التحديات التي تواجه الكتّاب في استقطاب جمهورهم وتفعيل تواصلهم. غياب الوعي الثقافي يجعل من الصعب على الأدب أن يستقطب جمهورًا واسعًا، مما يحرم الكتّاب من التفاعل المطلوب مع قرائهم. هذا الانخفاض في مستوى الثقافة يُعد عائقًا أمام تطور الأدب، حيث يتطلب التواصل الفعّال بين الكاتب والقارئ مستوى معينًا من التقدير والفهم.
رغم كل هذه التحديات، لا تزال تتحلى بالعزيمة والإصرار. فكل تجربة، سواء كانت إيجابية أو سلبية، تعلّمها شيئًا جديدًا وتزيد من إيمانها برسالتها الأدبية. تطمح، مع مرور الوقت، إلى تجاوز هذه العقبات، لأن الكتابة بالنسبة لها ليست مجرد مهنة، بل هي شغف وحاجة إنسانية تعبر عن رؤيتها للعالم.
إن ما يميزها هو قدرتها على تحويل الألم والضغوط إلى مصدر إلهام، مما يجعلها تجسد روح الإبداع الحقيقي. تدرك أن التحديات جزء لا يتجزأ من رحلة الإبداع، وأن الإصرار على الاستمرار هو السبيل لتجاوز كل الصعوبات.
حوار مع بديعة النعيمي
بين الحين والآخر، أستعرض وأبحث عن أفضل الروايات والكتب الحديثة التي تتناول القضايا المعاصرة. أقوم بقراءتها، وأحيانًا أكتب دراسات تحليلية تُنشر في بعض المنصات.
في الأسبوع الماضي، لفت انتباهي كتاب بعنوان “الحرب على غزة” للكاتبة والأديبة الأردنية بديعة النعيمي. قرأت الكتاب وكتبت دراسة تحليلية عنه نُشرت على موقع صحيفة “رأي اليوم”.
بعد ذلك، تواصلت مع الكاتبة عبر الماسنجر، وتبادلنا الحديث. طلبت منها كتابة مقال يتناول مسيرتها الأدبية وأفكارها بشكل مفصل، رحبت بذلك وأرسلت لها مجموعة من الأسئلة التي أجابت عليها. من خلال إجاباتها، تمكنت من كتابة هذا المقال الذي يعكس رؤيتها وأفكارها.
أتمنى أن أكون قد وفقت في تقديم صورة واضحة وشاملة عن الكاتبة بديعة النعيمي وأعمالها الأدبية، وأن يسهم هذا المقال في تسليط الضوء على إبداعاتها ودورها في الأدب العربي المعاصر.
في الختام، يتضح أن بديعة النعيمي ليست مجرد كاتبة عادية، بل هي صوت حقيقي يعبر عن معاناة الشعب الفلسطيني ويجسد آماله في الحرية والعدالة. من خلال أسلوبها الأدبي المميز وعمق رؤيتها، استطاعت أن تجعل القضية الفلسطينية محور كتاباتها، مما يعكس التزامها الدائم بالحق والإنسانية. ورغم التحديات التي تواجهها، تبقى عزيمتها قوية وإصرارها على إيصال رسالتها الأدبية مستمرًا، مما يجعلها واحدة من أبرز الأصوات الأدبية في العالم العربي المعاصر.
كاتب وصحفي من اليمن

ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: