(1)
لدي صديق افتتح منذ عام مطعمًا جميلًا في القاهرة، وقد اهتم بأدق التفاصيل منذ اليوم الأول. تعهَّد أمام نفسه قبل أي زبون بأن يراعي الله في جودة الخامات المستخدمة، والنظافة الشخصية للعاملين، بالإضافة إلى النظافة العامة للمكان والمطبخ. ومع ذلك، لم يحصل المطعم على عدد كافٍ من الزبائن في بدايته. نصحه مدير الشركة المسؤولة عن التسويق بأن يلجأ إلى الترويج عبر “مقيمي الطعام” أو ما يعرف بـ “الفود بلوجرز”.
بعد مشوار طويل من التفاوض مع بعض مشاهير تيك توك ويوتيوب وفيسبوك، كان على صديقي أن يدفع آلاف الجنيهات لقاء كلمات دعائية معتادة مثل: “جوسي”، “هياخدنا في حتة تانية”، و”اسمع صوت قرمشة الكريسبي”. رغم أن تأثير هذه الدعاية كان ملحوظًا في البداية، إلا أنها احتاجت إلى تمويل مستمر، مما جعله يشعر بالإحباط. لذا قرر تحويل أموال الدعاية هذه إلى أعمال خيرية عن طريق مطعمه، واضعًا ثقته بالله أن المردود سيكون إيجابيًا.
(2)
على مستوى العالم، يُعتبر “جيم ليف” أحد الروّاد في مجال تقييم الطعام الرقمي. في يوليو 1997، بدأ بتسجيل تجربته اليومية مع الطعام على موقع “شاوهاوند”. كانت مدونته “ما أكل جيم ليف للعشاء” تمتاز بأسلوب سردي جذاب، يدمج بين وصف دقيق للأطعمة والديكورات مع تعليق طريف ومواقف يومية تتصل بالطعام. سرعان ما جذبت مدونته عشاق الطعام ونجحت في ترسيخ مفهوم جديد تمامًا لمراجعات الأكل على الإنترنت، مما أثر بشكل كبير في المحتوى الرقمي الذي نراه اليوم.
ما بدأ كهواية، تطور إلى مصدر إلهام للعديد من صناع المحتوى حول العالم، وأصبحت رحلته نموذجًا يحتذى به. أما في مصر، فيُعتبر “مراد مكرم” أول مقيم طعام محلي بارز. بدأ رحلته من خلال تقديم برنامج “الأكيل” على شاشة التلفزيون، حيث كان يجوب مطاعم مصر ليقدم مراجعات موضوعية بأسلوب شائق، مما جعله مرجعًا لكثيرين يبحثون عن تجربة طعام مميزة.
في المقابل، تطوَّرت ظاهرة “الفود بلوجرز” بشكل مختلف في مصر حتى أصبحت مقززة كليًا. أحد أشهر الأمثلة هو مقيم الطعام المعروف، الذي يبدأ الفيديو بمقولته الشهيرة: “قولّة حضر، قولّه جه، قولّه هيعمل اللي عليه”. ورغم الحماس المبالغ فيه في البداية، ينتهي التقييم غالبًا بنقد غير موضوعي كاستخدام كلمة “زفر”، فقط لأن المطعم لم يدفع له أجرًا. يتناول “قلة” الطعام بطريقة منفّرة ويلقي بقاياه بعدم اكتراث، وهو ما أثار استياء العديد من المشاهدين والمطاعم على حدٍ سواء.
اشتد الصراع بين “قلة” ومقيمي الطعام الآخرين، مما جعل الوضع أشبه بساحة تنافس شخصي، خصوصًا بعد أن قام “قلة” بإعادة تقييم نفس الطبق لنفس المطعم ثلاث مرات بطريقة ساخرة، ارتدى فيها إكسسوارات غريبة محاولًا إضفاء طابع كوميدي، زاد سخافة على سخافته الفطرية وذوقه المحدود وزاد من انتقادات الجمهور له. المشكلة أن هذا المطعم ملك مقيّم طعام شهير آخر فأصبح الفضاء الإلكتروني مكانًا للتراشق بين مقيمي الطعام مجاملة لبعضهم وتنافسهم في سماع صوت الخرمشة لحبة الجمبري، هل فعلًا تقرمش وتخرمش أم ظلمها “قلّة” اللي بيعمل اللي عليه؟
(3)
عودة إلى صديقي، الذي بعد أن قرر التخلي عن فكرة “الفود بلوجرز”، ركَّز جهوده على تحسين تواصله مع زبائنه، والاستفادة من تقييماتهم المباشرة. بدأ بتنظيم فعاليات صغيرة لجذب الجمهور مثل “أنت الفود بلوجر”، حيث دعا أشخاصًا عاديين لتذوق الطعام وإبداء آرائهم. وبهذا تم توسيع دائرة محبي المطعم. كما أطلق صفحة على وسائل التواصل الاجتماعي حيث كان يشارك تفاصيل عن طريقة تحضير الأطباق، مؤكدًا على الجودة العالية والمكونات الطازجة. لم يستهن بقوة السوشيال ميديا ولكنه لم يجعلها تستدرجه لحياة مزيفة وتجارة غير شريفة عن طريق عرض آراء بأموال وليس كتقييم حقيقي.
الحقيقة أن الأمر أصبح أشبه بوظيفة شاهد الزور المتواجدة من قديم الأزل أمام المحاكم. بمرور الوقت، أصبح المطعم معروفًا بسمعته الطيبة وانتشر اسمه من خلال التوصيات الشخصية، التي لا تكلف شيئًا لكنها الأكثر تأثيرًا. صحيح لا يوجد طوابير طويلة وزحام أمامه، لكنه في وضع طيب يسمح باستمراره.
(4)
إن تأثير السوشيال ميديا على قرارات الشراء أمر لا يمكن إنكاره، لكنه قد يؤدي أحيانًا إلى نتائج عكسية إذا غابت المصداقية وتضر بالأرزاق. قصة صديقي تؤكد أن الاستراتيجية الأفضل قد لا تكون في دفع أموال طائلة للحصول على تقييمات غير صادقة، بل في بناء علاقة مباشرة مع الزبائن واستثمار الأموال في تحسين جودة المنتج والخدمة.
فالأمانة والجودة الحقيقية هما ما يصنع الفارق. الدعايا تجمع زبائن ولكن مرحليين. بالنسبة لي، الفود بلوجرز مهمون جدًا، أتابعهم حتى أعلم ما هي المطاعم التي يجب ألا أزورها. بالطبع ليس كل فود بلوجر شاهد زور ولكن للأسف كمية شهود الزور أفقدتني شخصيًا الثقة في أيًّا منهم.
نرشح لك: شاهد: مي فاروق ومحمد العمروسي يحتفلان على أغنية “هتجوز” قبل زفافهما