عمرو منير دهب يكتب: أحكام المتنبي المطلقة

عمرو منير دهب يكتب: أحكام المتنبي المطلقة

رَأيْنا أن المتنبي لو كان متعقّلاً فإنه “لم يكن ليكتب الشعر الذي كتب ولم يكن ليغدو المتنبي الذي نعرف؛ لكن ربما كان سيغدو مشهوراً بديوان آخر من الشعر متباين الأساليب والأغراض عبر سيرة ذاتية مختلفة الملامح”. ورأينا أن “المتنبي لم يُخْفِ اندفاعه وجموحه، وهو… لم يرَ في مبالغاته وجموحه جنوناً بل عقلاً خارقاً تجاوز الناس جميعاً، بل الزمان، زمانه على الأقل”.

وذهبنا، استمراراً في الاقتطاف عن المقام ذاته شديد الصلة بمقامنا هذا، إلى أن “من الحكمة الانتباه إلى أن جموح الشاعر العظيم في حضرة – بل في مواجهة – ممدوحه الأمير يتجاوز جموحه في مواجهة الزمان والدهر، فالجموح الأخير هذا إنما هو محض وهْم/خيال (مشروع) يؤخذ على أنه نكاية في غيره من الشعراء والأدباء لا في الزمان والدهر بطبيعة الحال، ولو كان تحدّياً للزمان والدهر لما اكترث له أحد؛ في حين أن جموحه الأول في حضرة/مواجهة الأمير من الممكن أن يُحاسَب عليه حساباً دقيقاً/قاسياً”.

نرشح لك: عمرو منير دهب: أمراض المتنبي النفسية

وانتهينا إلى أن “ذلك المدى العظيم من الجموح/الجنون هو ما صنع المتنبي على النحو الذي أبقاه حاضراً في ذاكرتنا الأدبية على مرّ القرون بأفضل مما تسنّى لغيره من الشعراء المتعقّلين والجامحين على حدّ سواء”.

بكل ذلك في الاعتبار، نقف فيما يلي على لقطات من ديوان شاعرنا العظيم تجسّد أحكامه المطلقة تفضيلاً لذاته أو لممدوحه، إمّا على العالمين كافةً وإمّا على كل مكان في الأرض وعلى الكواكب وإمّا على الدهر والزمان، وربما على كل ما تشير إليه تلك المسمّيات معاً في ضربة واحدة أحياناً.

تفضيلات المتنبي المطلقة للذات هي المحور الذي دار عليه إبداعه، بل هي الأساس الذي نهضت عليه شخصيته من الوجهة النفسية البحتة، وهو لم يتخلّ عن تفضيله المطلق للذات إلّا لصالح ممدوحيه، وإذا كان قد فعل ذلك بتصغير/تحقير واضح لنفسه في غير قليل من تلك المواضع فقد كان يطمح عبر ذلك التصغير/التحقير إلى نيل عطايا ثمينة تمكّنه آخر المطاف من بلوغ غايته الأسمى في الوصول إلى سدّة ولاية من أي قبيل؛ وقد كان من شقاء شاعرنا أن شغفه الأعظم انصبّ على الحكم/السلطة في أرض الواقع، وهو غير/ نقيض ما يمكن أن تتيحه له موهبته الخارقة من الإنجاز في عوالم الأدب والخيال؛ ذلك الإنجاز الذي تحقّق بالفعل لكنّه لم يحقق في نفس شاعرنا الإشباع بالنظر إلى طبيعة المجد الذي ظل يرنو إليه.

ذهب شاعرنا إلى أقصى ما يمكن أن يذهب إليه شاعر في تقييم نفسه قياساً إلى الناس كافة لا إلى فئة مخصوصة منهم، فقال على سبيل المثال:

سيَعلَمُ الجمعُ ممَّن ضمَّ مَجلسُنا ** بأنَّني خيرُ مَن تسعى بهِ قَدَمُ

وَلَو لَم تَكوني بِنتَ أَكرَمِ والِدٍ ** لَكانَ أَباكِ الضَخمَ كَونُكِ لي أُمّا

وَما أَنا مِنهُمُ بِالعَيشِ فيهِم ** وَلَكِن مَعدِنُ الذَهَبِ الرَغامُ

لا بِقَومي شَرُفتُ بَل شَرُفوا بي ** وَبِنَفسي فَخَرتُ لا بِجُدودي

إِن أَكُن مُعجَباً فَعُجبُ عَجيبٍ ** لَم يَجِد فَوقَ نَفسِهِ مِن مَزيدِ

أريدُ من الأيام مالا يريدُهُ ** سوايَ ولا يجري بخاطرهِ فكرا

تَغَرَّبَ لا مُستَعظِماً غَيرَ نَفسِهِ ** وَلا قابِلاً إِلّا لِخالِقِهِ حُكما

وَكُلُّ ما قَد خَلَقَ الــلـــه وَما لَم يَخلُقِ

مُحتَقَرٌ في هِمَّتي ** كَشَعرَةٍ في مَفرِقي

وإذا كانت الأفضلية على كل من/ما خلق الله هي الأساس النفسي لدى شاعرنا العظيم، فإنه لا يجد حرجاً في التنازل عن تلك الأفضلية لصالح ممدوحه؛ وهو تنازل مؤقت لتحقيق غايته الأسمى التي أشرنا إليها متمثلة في العطايا الثمينة المفضية بدورها إلى الولاية. يقول المتنبي – على سبيل المثال – في تفضيلاته المطلقة لممدوحيه على اختلاف أشكالهم وألوانهم:

أَنتَ أَعلى مَحَلَّةً أَن تُهَنّى ** بِمَكانٍ في الأَرضِ أَو في السَماءِ

وَمَا زَالَ أَهْلُ الدَّهْرِ يَشْتَبِهُونَ لِي ** إِلَيْكَ فَلَمَّا لُحْتَ لِي لَاحَ فَرْدُهُ

تَمَلَّكَ الحَمدَ حَتّى ما لِمُفتَخِرٍ ** في الحَمدِ حاءٌ وَلا ميمٌ وَلا دالُ

فَكانَ أحْسنَ خَلق الله كلِّهِمُ ** وكانَ أحسنَ ما في الأحسَنِ الشِّيَمُ

أَبو شُجاعٍ أَبو الشُجعانِ قاطِبَةً ** هَولٌ نَمَتهُ مِنَ الهَيجاءِ أَهوالُ

يا أُختَ خَيرِ أَخٍ يا بِنتَ خَيرِ أَبِ ** كِنايَةً بِهِما عَن أَشرَفِ النَسَبِ

أَرى العِراقَ طَويلَ اللَيلِ مُذ نُعِيَت ** فَكَيفَ لَيلُ فَتى الفِتيانِ في حَلَبِ

وَأَكرَمَ الناسِ لا مُستَثنِياً أَحَداً ** مِنَ الكِرامِ سِوى آبائِكَ النُجُبِ

مَن قالَ لَستَ بِخَيرِ الناسِ كُلِّهِمِ ** فَجَهلُهُ بِكَ عِندَ الناسِ عاذِرُهُ

أَو شَكَّ أَنَّكَ فَردٌ في زَمانِهِمِ ** بِلا نَظيرٍ فَفي روحي أُخاطِرُهُ

يا رَجاءَ العُيونِ في كُلِّ أَرضٍ ** لَم يَكُن غَيرَ أَن أَراكَ رَجائي

وَأَبعَدَ ذي هِمَّةٍ هِمَّةً ** وَأَعرَفَ ذي رُتبَةٍ بِالرُتَب

وَأَطعَنَ مَن مَسَّ خَطِّيَّةً ** وَأَضرَبَ مَن بِحُسامٍ ضَرَب

كَأَنَّكَ وَحدَكَ وَحَّدتَهُ ** وَدانَ البَرِيَّةُ بِاِبنِ وَأَب

وتَحتَقِرُ الدُنيا اِحتِقارَ مُجَرِّبٍ ** يَرى كُلَّ ما فيها وَحاشاكَ فانِيا

لَيسَ إِلّاكَ يا عَلِيُّ هُمامٌ ** سَيفُهُ دونَ عِرضِهِ مَسلولُ

وَأُعطيتَ الَّذي لَم يُعطَ خَلقٌ ** عَلَيكَ صَلاةُ رَبِّكَ وَالسَلامُ

قَد شَرَّفَ اللَهُ أَرضاً أَنتَ ساكِنُها ** وَشَرَّفَ الناسَ إِذ سَوّاكَ إِنسانا

إمعاناً في المغالاة، لا يتورّع المتنبي عن تحقير البشر جميعاً من أجل ممدوح واحد؛ ففي ضربة ثلاثية ماحقة عمد إلى تفضيلٍ مطلق للممدوح، وتفضيل للذات مقيّد بقيد واحد هو استثناء الممدوح، وأخيراً احتقار الناس أجمعين إلى درجة عدّهم أبعرةً تُركَب من أجل بلوغ الممدوح:

لَوَ اِستَطَعتُ رَكِبتُ الناسَ كُلَّهُمُ ** إِلى سَعيدِ ِبنِ عَبدِ اللَهِ بُعرانا

أمّا هذه، فضربة مهينة أيضاً للبشرية جمعاء، لكنّها أخف وطأة من سابقتها:

وَلَولا كَونُكُم في الناسِ كانوا ** هُراءً كَالكَلامِ بِلا مَعاني

ولا يكتفي شاعرنا النرجسي على كل حال بالتنازل لممدوحيه عن الأفضلية على خلق الله، فيمتدّ بمزايدات في تميّز وأفضلية أولئك الممدوحين على الأيام والزمان والأماكن والكواكب:

تسر بالمال بعض المال تملكه ** إن البلاد وإن العالمين لكا

حَتّى غَدَوتَ وَلِلأَخبارِ تَجوالُ ** وَلِلكَواكِبِ في كَفَّيكَ آمالُ

وَإِذا صَحَّ فَالزَمانُ صَحيحٌ ** وَإِذا اِعتَلَّ فَالزَمانُ عَليلُ

تضيقُ عَن جَيشِهِ الدُنيا وَلَو رَحُبَت ** كَصَدرِهِ لَم تَبِن فيها عَساكِرُهُ

تَفضَحُ الشَمسَ كُلَّما ذَرَّتِ الشَمـ ** ـسُ بِشَمسٍ مُنيرَةٍ سَوداءِ

تُفيتُ اللَيالي كُلَّ شَيءٍ أَخَذتَهُ ** وَهُنَّ لِما يَأخُذنَ مِنكَ غَوارِمُ

هَنيئاً لَكَ العيدُ الَّذي أَنتَ عيدُهُ ** وَعيدٌ لِمَن سَمّى وَضَحّى وَعَيَّدا

وَلا زالَتِ الأَعيادُ لُبسَكَ بَعدَهُ ** تُسَلِّمُ مَخروقاً وَتُعطى مُجَدَّدا

فَذا اليَومُ في الأَيّامِ مِثلُكَ في الوَرى ** كَما كُنتَ فيهِم أَوحَداً كانَ أَوحَدا

أُحِبُّكَ يَا شَمْسَ الزَّمَانِ وَبَدْرَهُ ** وَإِنْ لَامَنِي فِيكَ السُّهَى وَالْفَرَاقِدُ

فَإِنَّكَ مَا مَرَّ النُّحُوسُ بِكَوْكَبٍ ** وَقَابَلْتَهُ إِلَّا وَوَجْهُكَ سَعْدُهُ

وقد يفعل العكس فيذمّ الدهر مزايدةً في سياق ذمّ مهجوٍّ كان من قبل ممدوحاً زايد على الأيام من أجله:

لعَمريَ ما دهرٌ بهِ أنت طيِّبٌ ** أيَحسَبُني ذا الدهرُ أحسَبُهُ دَهرا

وإن يكن يرى نفسه الأصلَ في الأفضلية على الخلق والأجدرَ بالمزايدة على الأيام والزمان والكواكب:

ما أبعدَ العَيبَ والنّقصانَ منْ شَرَفِـي ** أنَـا الثّرَيّـا وَذانِ الشّيـبُ وَالهَـرَم

أُريدُ مِن زَمَني ذا أَن يُبَلِّغَني ** ما لَيسَ يَبلُغُهُ مِن نَفسِهِ الزَمَنُ

وَما الدَهرُ إِلّا مِن رُواةِ قصائدي ** إِذا قُلتُ شِعراً أَصبَحَ الدَهرُ مُنشِداً

لا تكاد تخلو قصيدة واحدة لشاعرنا المجيد هذا من شكل من أشكال التمجيد للذات أو للممدوح، والغالب أن القصيدة الواحدة تضمّ شكلَي التمجيد الاثنين معاً. وإذا نظرنا إلى ذلك في ظلال الأعمدة التي نهض عليها الشعر العربي لن نجد غرابة في الأمر، فقد قام ذلك الشعر أساساً على المبالغة في كل أغراضه الغنائية من فخر ومدح وهجاء ورثاء وتشبيب وغير ذلك.

أمّا ما ميّز المتنبي تحديداً، على نحو ما رأينا في الأمثلة الماضية، فهو بلوغه الغاية في المبالغة، إنْ تجاه الذات أو حيال الممدوح، ولكن ليس إزاء قومه أو ملّته بحال؛ فقد كان شاعرنا الكبير ذاتيّ التمحور في كل أفعاله وأقواله، ولم يكن ممدوحوه كما أشرنا سوى وسيلة لمجده الخاص الذي لم يبلغه كما كان يشتهي في السلطة وإنّما أدركه في الأدب الذي رأى – ابتداءً – أن مجده فيه متحقق ببداهة لم تثر دهشته ولم تحقق له ما كان يصبو إليه من الإشباع النفسي.

للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: [email protected]